نبذة عامة والسياق
تلقي ندرة المياه بظلها على العالم مهددة صحة الإنسان وتنمية الاقتصاد واستدامة البيئة، أوضح تقرير الأمم المتحدة عن تنمية المياه في العالم أنه بحلول عام 2050 سيعيش واحد من بين أربعة أفراد في منطقة تعاني من نقص مزمن أو دوري في المياه العذبة1، وهذه الأزمة حادة بشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حيث صنفت 12 من أصل 18 دولة من ضمنهم مصر يعانون من ندرة المياه (البنك الدولي، 2023)2.
على الرغم من وجود مورد نهر النيل الخالد، صنفت مصر من ضمن البلدان التي تواجه التحدي الصعب وهو ندرة المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع احتساب نسبة المياه للفرد سنويًا 570 متر مكعب فقط (م3) وهذا أقل بكثير من خط الفقر المائي للأمم المتحدة البالغ1000 متر مكعب (المجلس الأطلسي، 2023)3، وتواجه مصر ضغوط هائلة على محدودية مصادر المياه نتيجة لزيادة المستمرة في عدد السكان الذي تجاوز 100مليون نسمة (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 2023)، ويتخطى تأثير ندرة المياه فكرة التوفر ليمتد بشكل غير متناسب إلى الأقليات خاصة في المجتمعات الريفية التي تشكل ما يقرب من 56% من السكان (اليونيسف مصر، 2024)4.
ويتطلب معالجة هذه التحديات حلول عاجلة، فبالتشارك مع معمل عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومن خلال مؤسسة ومن الماء حياة، تسعد مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية بتمويل التدخلات وكذلك تقييمات الأثر التي تسهم في تحديد فاعلية التدخلات لزيادة استيعاب وحدات معالجة المياه المجتمعية في ريف مصر، حيث مكننا النهج القائم على الأدلة من تخطي أساليب توصيل المياه التقليدية وتحديد العائد بدقة من جهودنا لتصدعات جسر الأمن المائي الذي يهدد الحياة اليومية للمجتمعات المصرية الأولى بالرعاية.
المياه حياة
“المياه حياة” هو مشروع صُمم لمواجهة تحدي ندرة المياه في المجتمعات الريفية لمحافظات سوهاج وأسيوط والمنيا وقنا في صعيد مصر، ويستلزم زيادة القدرة الاستيعابية ومعدل التبني لخمسة وعشرين وحدة معاجلة المياه مجتمعية مع إنشاء وحدتين ليصبح حاصل عددهم 27 وحدة متخصصة في ضمان توفير مياه نظيفة للمستفيدين، بالإضافة الى تطوير البنية التحتية ومد 4000 متر من خطوط أنابيب المياه الرئيسية وإنشاء وصلات صنابير المياه لعدد 200 أسرة مما أدى الى وصول وتحقيق الأمن المائي لأكثر من 11,600 أسرة في المناطق الريفية بالصعيد.
علاوة على ذلك فإن نشر فكرة التاكسي المائي وسيلة حديثة من شأنها أن تضمن وصول المياه النظيفة للمنازل التي يصعب الوصول إليها من خلال البنية التحتية الأساسية، بحيث لا تترك أي أسرة بدون مياه صالحة للشرب، وذلك يتطلب أيضا حملات توعية بهدف عام وهو تعزيز الحفاظ على المياه وممارسات النظافة وتبني السلوكيات التي تعزز استخدام المياه بما يسمح باستدامتها، مثل هذه الحملات مفيدة في ترسيخ أهداف المشروع في حياة أفراد المجتمع لتحقيق أثر مستدام.
يأتي في صميم استراتيجية مشروع “المياه حياة” تركيز قوي على بناء القدرات الفنية والإشراف، وينفذ هذا المكون الفرعي كنظام يمكن أفراد المجتمع من خلاله إكسابهم المهارات والمعرفة المطلوبة عن العمليات اليومية وصيانة وحدات معالجة المياه التي أُنشئت لتكون جاهزة وبناء الاستدامة والإدارة المجتمعية للموارد الطبيعية في هذا النموذج لإدارة موارد المياه.
السياق الثقافي للممارسات التي تدعم توفير مياه الشرب التي تراعي الصحة: أدلة من مصر
تعتبر مواجهة التحدي المتمثل في انخفاض معدلات الاعتماد على المياه التي تراعي الصحة من الشواغل الرئيسية لصانعي السياسات والجهات المانحة الدولية، وتضمنت أسباب انخفاض معدلات معالجة المياه بالكلور ارتفاع الأسعار وقلة الوعي بفوائدها الصحية مما دفع الباحثين وصانعي السياسات إلى اتباع منهجيات مبتكرة لسد فجوة استهلاك الماء الآمن والدفع بتغيير السلوكيات على مستوى الأسرة.
تبحث الدراسة الحديثة التي أجرتها مؤسسة ساويرس وجامعة براون ومؤسسة ومن الماء حياة في الدور المحوري للتفضيلات والثقافة والعادات في عملية صنع القرار للأسرة لتبني المياه التي تراعي الصحة، وقدم المشروع (التدخل) تكنولوجيا جديدة وصديقة للثقافة توظف وحدات معالجة المياه لتنقية المياه المحلية وإنتاج مياه تراعي الصحة، وعلى النقيض من المياه المعالجة بالكلور فإن هذه التكنولوجيا تنتج مياه صالحة للشرب لا تغير طعم المشروبات التقليدية (الشاي) فيما يتعلق بالعادات الاستهلاكية والاجتماعية للسكان المحليين، علاوة على ذلك فإن المياه المرشحة صحية أكثر من المياه المكلورة لأنه بالإضافة الى إزالة البكتيريا فإن عملية الترشيح تقضي أيضًا على الملوحة المفرطة.
تكشف الدراسة تفضيلات قوية وواضحة للمياه المرشحة أكثر من المياه المكلورة، في “اختبار التذوق الأعمى” تذوق 230 مُشارك المياه المرشحة والمياه المكلورة دون معرفتهم الفرق وسُئلوا أي المياه يفضلون، فأجاب حوالي 80% منهم بتفضيلهم للمياه المرشحة على المياه المكلورة (أنظر الشكل 1).
ثانيًا، يترجم هذا التفضيل للمياه المرشحة إلى معدلات تبني أعلى واستعداد أعلى للدفع مقارنة بالمياه المكلورة، قُدم لعدد 400 سيدة عشوائيًا إما دلو سعة 20 لترًا من المياه المرشحة (مجموعة تلقت التدخل/المشروع) أو المياه المكلورة (المجموعة الضابطة) دون إبلاغهن بطبيعة المياه المقدمة، بعد تذوق المياه طُلب من السيدات اتخاذ خيارات شراء الماء المُذاق بأسعار مختلفة محددة عشوائيًا (آلية بيكر و ديجروت، ومارشاك، 1964)5، كانت السيدات على استعداد كامل لدفع 61% أكثر مقارنة بالمياه المكلورة بمعدلات تبني للمياه المرشحة تصل الى 91% عند تقديمها بسعر الصفر (مدعمة بالكامل)، يتخطى هذا المعدل بشكل ملحوظ السقف المبلغ عنه سابقًا والبالغ 50% والذي حددته الدراسات السابقة (دوباس وآخرون 2016، هوشوفر وآخرون، 2021 ودوباس وآخرون، 2023)6.
كما قيمت الدراسة العوامل التي تفسر هذه الاختلافات الصارخة في الإدراك الصحي لمصادر المياه المختلفة، مشروطة بتلقي نفس المعلومات الصحية، وتظهر النتائج أن المشاركين اعتبروا المياه المرشحة ألذ وصحية أكثر، ويمكن أن يعزى هذا الاختلاف في التصورات الصحية حصريًا إلى الاختلافات في طعم الماء، مما يشير إلى أن الذوق يلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل التصورات المتعلقة بالفوائد الصحية المرتبطة بأصناف المياه المختلفة.
مقتضيات السياسة العامة
تحمل هذه النتائج مقتضيات لوضع السياسات، أولها تصميم التدخلات لسياقات ثقافية محددة لتعزيز القبول المحلى وتعزيز الاستدامة على المدى الطويل، ثانيها أن يعيد صانعو القرار السياسي النظر في موازنة الاستراتيجية السائدة لدعم الكلور من أجل استكشاف مناهج بديلة تراعي ثقافة المجتمعات المحلية وتفضيلاتها، وسلط البحث الضوء على قيود الحملات الإعلامية المتعلقة بالتدخلات المعنية بالمياه، لا سيما في المناطق التي لديها معدلات أمية عالية، ففي هذه المناطق يعمل الذوق كمؤشر حاسم لجودة المياه ويشكل تصورات عن الصحة وحجم استهلاك المياه التى تراعي الصحة، مما يضر بالمعلومات العلمية وسبل الاستفادة منها.
هل الزيادة الملحوظة في اعتماد وتقبل المياه التي تراعي الصحة تترجم الى تحسن حقيقي في الصحة؟ يستلزم البحث المستقبلي إجراء تجربة إضافية لدراسة ما إذا كانت الاختلافات في معدلات التبني تترجم إلى فوائد صحية، المشروع البحثي القادم سينفذ بالتعاون مع مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والمعمل المصري لقياس الأثر التابع لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والذي سيقيم الأثر على النتائج الصحية مثل النظافة واستخدام الماء النظيف والمعدة ومشاكل الكلى، وستشمل النتائج الثانوية التأثير على التعليم والإنتاجية، خاصة بالنسبة للنساء والفتيات اللواتي يتحملن عبء البحث عن المياه وجلبها.
ملاحظات ختامية
تدعم مؤسسة ساويرس جهود الحكومة المصرية لمكافحة ندرة المياه، والتي هي مساهم رئيسي في الفقر متعدد الأبعاد، وتجسد التدخلات مثل “المياه حياة” هذا الالتزام، ومع ذلك فإن التعقيدات الفريدة لأزمة المياه في مصر، بما في ذلك ممارسات استخدام المياه المنزلية المتأصلة، وانخفاض نصيب الفرد من مياه الشرب النظيفة، والحاجة إلى ابتكار قوي في الحلول المتعلقة بالمياه تتطلب نهجًا شاملاً واستراتيجيًا يعزز الجهود الحكومية الحالية.
إن تأمين احتياجات المجتمعات الأولى بالرعاية في مصر فيما يتعلق بالحصول على مياه الشرب النظيفة أمر بالغ الأهمية لتنميتها ورفاههيتها، لقد تعلمنا أنه من الأفضل القيام بذلك جنبًا إلى جنب مع ممارسات إدارة المياه المحلية التي تراعي السياقات المحلية، وبناء الوعي حول الآثار المترتبة على المياه غير الصحية.
من خلال دعم صانعي التغيير مثل مؤسسة ومن الماء حياة لتنفيذ التدخلات القائمة على الأدلة وتوفير الوصول إلى الخدمات الأساسية يحد في نهاية المطاف من أبعاد الفقر الذي يواجهه المصريون ومن خلال قسم التمكين الاجتماعي، تركز مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية على تعزيز الابتكار في تكنولوجيات المياه مثل التحلية اللامركزية وتحسين إدارة الموارد، بالإضافة إلى حملات التغيير السلوكي لزيادة الوعي وتشجيع الاستخدام المستدام للمياه على مستوى الأسرة، كما تلتزم مؤسستنا وتتطلع إلى المساهمة في استراتيجية وتدخلات وطنية أكثر شمولاً واستدامة لإدارة المياه، مما يؤدي في النهاية إلى مستقبل لا يعوق فيه شبح ندرة المياه تقدم ورفاهية الشعب المصري وازدهاره.
[1] Water, U. N. “Water and climate change.” The United Nations World Water Development Report (2020): UN World Water Development Report 2020 | UN-Water (unwater.org)
[2] World Bank (2023, March 22). Accelerating Change to Solve the Water Crisis. Accelerating Change To Solve The Water Crisis (worldbank.org)
[3] The Atlantic Council, Egypt’s Climate Profile (2023): Climate profile: Egypt – Atlantic Council
[4] UNICEF Egypt (2024). UNICEF Egypt. https://www.unicef.org/egypt/
[5] Becker, Gordon M., Morris H. DeGroot, and Jacob Marschak. “Measuring utility by a single‐response sequential method.” Behavioral science 9.3 (1964): 226-232.
[6] Dupas, Pascaline, et al. “Targeting health subsidies through a nonprice mechanism: A randomized controlled trial in Kenya.” Science353.6302 (2016): 889-895. Haushofer, Johannes, et al. Water treatment and child mortality: Evidence from kenya. No. w29447. National Bureau of Economic Research, 2021.
– Haushofer, Johannes, et al. Water treatment and child mortality: Evidence from kenya. No. w29447. National Bureau of Economic Research, 2021.
– Dupas, Pascaline, et al. “Expanding access to clean water for the rural poor: experimental evidence from Malawi.” American Economic Journal: Economic Policy 15.1 (2023): 272-305.